في صباح اليوم الاول من زواجه نهض ابن أبي وداعة، فقالت له عروسه: "إلى أين انت ذاهب؟، قال:" إلى درس الشيخ سعيد أتعلم العلم"، قالت:" أجلس أعلمك علم سعيد"، أجلسته عروسه القرشية المخزومية أعلم النساء في زمانها، لتعلمه علم الذي نشأت في أحضانه ترضع لبانه طفلة وفتاة مخدرة، تقتعد البيت لا تبرحه، فمكث يدرس على يديها شهراً علم أبيها سعيد بن المسيب، سيد التابعين، عالم أهل المدينة وفقيه الفقهاء في زمانه، كيف لا؟ وقد تلقى العلم عن كبار الصحابة وجل روايته المسندة كانت عن صهره الصحابي الجليل أبي هريرة (رضي الله عنه)، الذي كان يقول حين يراه:" أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة"، فما أرجح عقل تلك الفتاة الصغيرة وغزارة فهمها وسعة علمها وسمو تفكيرها، وشدة إيمانها، تلك التي ذاع صيت جمالها وحسنها بين المدينة آنذاك حتى خطبها الخليفة عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، فأبى والدها أن يزوجها له فصعق الخليفة حين سمع رفض سعيد بن المسيب تزويج أبنته من أبنه ولي العهد، ولم يزل يحتال عبد الملك عليه حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد، وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف، فلم يلتفت ابن المسيب العالم العابد الورع إلى ما يترتب على ذلك الزواج من حظوظ ومكاسب دنيوية في المال، والجاه والسلطة، رافضاً ذلك العرض حماية لابنته من الفتنة بالانشغال بمظاهر الدنيا وزخرفها، وصيانة لإيمانها من التصدع، وذهاب علمها، وعدم العمل به.
فشاع الخبر في الأوساط كلها بأن ابن المسيب قد رفض ان يزوج ابنته من أبن الخليفة ولي العهد، إذن فمن الذي يداني ابن الخليفة شرفاً ومكانةً اجتماعية ليكون المحظوظ بالزواج من هذه الفتاة الحسناء؟، ثم سارت الايام ولعل الامر هذا جعل الناس يحجمون حتى عن التفكير بالإقدام على خطبتها حتى جاء يوم أفتقد فيه سعيد في مجلسه أحد تلاميذه الذين يواظبون على حضور مجلسه، فسأل عنه فعلم أن زوجته قد ماتت وتركت له أطفالاً صغاراً يقوم على رعايتهم، فذاك الذي حبسه عن حضور الدرس ولنسمع هذا التلميذ النجيب يقص علينا حكايته مع ابن المسيب وابنته المصون، فيقول:
" كنت أجالس سعيد بن المسيب، ففقدني أياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قال: توفيت أهلي، فاشتغلت بها، فقال: ألا أخبرتنا فشهدناها؟ قال: ثم أردت أن أقوم، فقال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله ومن يزوجني، وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟
فقال: أنا، فقلت: أو تفعل؟ قال: نعم، ثم حمد الله تعالى وصلى على النبي (صلى الله عليه وسلم) وزوجني على درهمين أو قال ثلاثة، فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح، فصرت إلى منزلي، وجعلت أتفكر فيمن أستدين، فصليت المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائماً، فقدمت عشائي أفطر، وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بابي يقرع، فقلت: من هذا؟ فقال: سعيد، فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيب، فإنه لم ير أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له.
فقلت: يا أبا محمد، ألا أرسلت إلى فآتيك؟
قال: لا، أنت أحق أن تؤتى، إنك كنت رجلاً عزباً، فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها، فدفعها في الباب، ورد الباب، فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظل السراج لكي لاتراه، ثم صعدت السطح، فرميت الجيران، فجاؤوني، فقالوا: ما شأنك؟
فأخبرتهم، ونزلوا إليها، وبلغ أمي، فجاءت، وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام.
فأقمت ثلاثاً، ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأعرفهم بحق زوج.
فمكثت شهراً لا آتي سعيد بن المسيب، ثم أتيته وهو في حلقته، فسلمت، فرد علي السلام، ولم يكلمني حتى تقوض المجلس، فلما لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء، فالعصا، فانصرفت إلى منزلي، فوجه إليَّ بعشرين ألف درهم".
أختار الأب لأبنته زوجاً يعول أيتامه الصغار وليس معه مال، عرض فلذة كبده عليه لثقته فيه بانه سيحسن معاملتها ورعايتها، لما لمح فيه من صلاح الدين والورع ودماثة الخلق والادب، والأمانة والقوة، كما عرض الشيخ الصالح أبنته على موسى عليه السلام في قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}(القصص: 27).
وكما عرض الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ابنته حفصة للزواج من عثمان بن عفان، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "ألا أدلك على ختن خير لك من عثمان، وأدل عثمان على ختن خير له منك؟ " قال: بلى، قال: "زوجني ابنتك، وأزوج عثمان ابنتي".
لقد برتّ تلك الفتاة الزكية بأبيها بالسمع والطاعة لما أمرها به، حينما أخذها من بيته الى بيت رجل غريب عنها ودون أدنى مقدمات، ولم تخرج عن طوع أبيها فيما اختاره لها ورضت بالزواج من رجل فقير بمعيته اولاده الصغار، فهذا الأب الحنون المتواضع يرى بعلمه وفهمه الثاقب انه قد وهبها الخير كله، ولم يحرمها منه، وأسعدها في زواجها من رجل متعلم صالح، ورع زاهد في الدنيا وحظوظها، وفوق ذلك فقد افاض إليه من جوده وكرمه بعطاء نحو عشرين ألف درهم مع قبول تزويجه اياها على درهمين، لقد حث الاسلام كلا من الزوجين على حسن اختيار صاحبه، وبين لنا المواصفات التي يشترط توافرها في كل منهما.
فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):" إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير"، وعنه ايضا ان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك".
وعندما سأل زياد بن أبيه اصحابه: " من أنعم الناس عيشاً؟ قالوا له: الأمير وأصحابه قال: كلا، أنعم الناس عيشاً رجل في دار لا يجرى عليه كراء، له زوجة قد قنع بها وقنعت به، لا يعرفنا ولا نعرفه، إنا إن عرفناه أفسدنا عليه دينه ودنياه، وأتعبنا ليله ونهاره".
ان البيت الذي يكرمه الله تعالى بامرأة مثل ابنة سعيد تحمل هذه الصفات الكريمة من راجحة العقل وقوة الإيمان وسمو الخلق، لا شك أنه سيكون أسعد البيوت وابركها، فمِن نِعم الله على عبده أن يرزقه زوجةً صالحة، تكفيه وتغنيه ويأمنها على نفسه وعلى أبنائه فتدوم المحبة والمودة وتحسن العشرة والمعاملة، ويحل التفاهم والانسجام، فيعمر الزواج ويثمر وتحفظ البيوت وتحصن.
بـقـلـم
أ.م.د. نضال علي حسين الرشيد
معاونة مدير القسم لشؤون الطالبات